[go: up one dir, main page]

Academia.eduAcademia.edu
‫المعجم اللغوي في مجالس التذكير من كالم الحكيم الخبير‬ -‫أنموذجا‬-‫ من سورة يوسف‬108‫تفسير اآلية‬ ‫سارة بوفامة‬-‫أ‬ ‫جامعة األمير عبد القادر للعلوم اإلسالمية‬ ‫ يقوم هذا املقال على مقاربة نص من نصوص جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري لعبد احلميد بن‬:‫ملخص‬ ‫ مقاربة داللية وفق منهج احلقول‬، ‫ من سورة يوسف‬108 ‫ لآلية‬-‫ أو هو حتليل‬- ‫باديس الذي ميثل تفسريا‬ . ‫ منطلقا من فكرة أن النص هو ألفاظ جمموعها يشكل نظاما مفهوميا ميثل رؤية الكاتب للعامل‬، ‫الداللية‬ ‫وألن نصه ينطلق من القرآن وهدفه هوتطبيق املنهج القرآين يف اجملتمع اجلزائري فإن رؤيته للعامل ال تنفصل عن‬ ‫الرؤية القرآنية وهي يف الوقت ذاته تتصل بالواقع اجلزائري فكان ابن باديس ابن زمانه وعصره الذي ارتبط يف الوقت‬ .‫نفسه ارتباطا عقليا بتارخيه اإلسالمي‬ Abstract : This article is based on the approach of one of « the reminding councils from the wise experct words » texts of Abdelhamid Ibn Badis, which is an exegesis or analysis of the verse n° 108 of Surat Yusuf . It is a semantic approach according to the semantic field’s method having as a source the idea that the text is a group of words that form a conceptionnal system reflecting the author’s view to the world. As the text’s reference is Quran and its aim is to apply the Quranic method in the Algerian society, then its view to the world is unseparable of the Quranic one and in the same time, it is related to the Algerian fact and reality. For, Ibn Badis was a great of his era who was conceptionnally linked to his islamic history. 1 ‫مقدمة‪:‬‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم والصالة والسالم على أشرف املرسلني ‪.‬أما بعد‪:‬‬ ‫فقد نزل القرآن الكرمي بلغة العرب ووفق أساليب بياهنم فلم جيدوا عناءً يف فهمه وإدراك تعاليمه ومقاصده‪ ،‬ومع‬ ‫اتساع املدة الزمنية اليت تفصل بني عصر الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصحابته وبني العصور التالية هلم مبا حتويه‬ ‫من مالبسات ومعطيات مغايرة لتلك اليت كانت يف مرحلة النزول ومرحلة التلقي األول فأصبحت هناك حاجة‬ ‫ملحة الكتناه هذه الرسالة اللسانية للوصول إىل مقاصدها املتعلقة باإلنسان وبعالقته بربه وحميطه ‪ ،‬فكان التفسري‬ ‫هو القراءة املتجددة اليت تبث من النص الواحد – القرآن الكرمي – نصوصا تلو النصوص‪.‬‬ ‫لعل أمهها ما يتعلق‬ ‫خيضع عنصر التجديد يف إنتاج النصوص املفسرة لكالم اهلل عز وجل إىل اعتبارات عديدة و ّ‬ ‫بروح العصر الذي أفرز هذا التفسري‪ ،‬ومن هذه النصوص جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري لعبد احلميد بن‬ ‫باديس(‪ ،)1940-1889‬وهو تفسري أوجدته ظروف اجتماعية وثقافية خاصة ضمن حقبة تارخيية ميّزها الوجود‬ ‫بكل ما حيمله من تبعات سلبية كاجلهل واألمية وحماوالت طمس اهلوية واإلدماج‪.‬‬ ‫االستعماري ّ‬ ‫ويدرسه‬ ‫احلل يكمن يف القرآن الكرمي فكان أساس دعوته وحركته اإلصالحية‪ ،‬يتدارسه ّ‬ ‫رأى ابن باديس أن ّ‬ ‫أت تفسريه كامال يف مدة تقارب اخلمس وعشرين‬ ‫للناس باجلامع األخضر كل ليلة بعد صالة العشاء حىت ّ‬ ‫سنة"‪1‬وكان يرى أ ّن استنباط احللول منه يف حاجة إىل رؤية واعية ومتجددة ومتحررة من قيود الطرقية واخلرافة‬ ‫والتفاسري املنجرفة وراء توجهات ومذاهب أصحاهبا‪ ،‬وال يعين التجديد إنكار جمهودات السلف "فقد كان يقرأ‬ ‫التفاسري‪ ،‬ثّ جيعل من عقله مصفاة هلا ‪ ،‬فال خيرج منها إال ما صح ونفع ‪ ،‬والءم العصر‪ ،‬وصدق اخلرب‪ ،‬مع حسن‬ ‫عرض‪ ،‬واستنباط واع‪ ،‬واستنتاج للعربة‪"...‬‬ ‫‪2‬‬ ‫صها بالنشر يف افتتاحيات جملة الشهاب‪،3‬أطلق عليها "مجالس التذكير من‬ ‫يتخري ابن باديس من القرآن آيات خي ّ‬ ‫كالم الحكيم الخبير " وهذه املختارات هو ما ُجع الحقا وأطلق عليه املسمى ذاته أو العنوان الرديف ‪:‬تفسري‬ ‫‪ 1‬الشيخ عبد احلميد بن باديس السلفية والتجديد‪:‬حممددراجي‪.‬داراهلدى‪،‬عني مليلة‪،‬اجلزائر‪،‬دط‪.2012،‬ص‪.32‬‬ ‫‪2‬‬ ‫تفسري بن باديس يف جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري ‪ :‬بقلم توفيق حممد شاهني‪.‬جع وترتيب‪ :‬توفيق شاهني ‪ /‬حممد‬ ‫الصاحل رمضان‪.‬دار الفكر‪،‬ط‪،3،1979‬ص‪.709‬‬ ‫‪ 3‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري‪ :‬عبد احلميد بن باديس ‪.‬تح‪ :‬أبو عبد الرمحن حممود‪ ،‬مح ‪ 1‬دار الرشيد‪ ،‬دار ابن حزم‪:‬‬ ‫بقلم اإلمام حممد البشري االبراهيمي‪.‬مج‪،1‬ص‪.15‬‬ ‫‪2‬‬ ‫ابن باديس‪ ،‬سعيا منه إىل حترير العقول وتنوير النفوس وتوجيه السلوك حنو ما حيمل به الفرد اجلزائري وكل مسلم‬ ‫فسر ألجلها ابن باديس القرآن الكرمي فالتفسري حلقة مهمة تشكل‬ ‫إىل السعادة ‪ .‬كان اإلصالح الغاية األوىل اليت ّ‬ ‫مع حلقات أخر املنظومة اإلصالحية التجديدية اليت أسسها ابن باديس رفقة جمموعة من رجال اإلصالح يف‬ ‫اجلزائر‪" .‬فقد كانت عنايته بالتفسري ملحوظة بال شك من بداية احلركة العتقاد أعضائها بأ ّن الوحي الذي نزل‬ ‫على حممد صلى اهلل عليه وسلم احتوى كل ما حيتاجه اإلنسان لصالح حاله ‪ ،‬والعتقاده يف فرضية أ ّن مرحلة‬ ‫السلف اتسمت بالتقييم الصحيح ألصحاب الرسول صلى اهلل عليه وسلم والتابعني للقرآن والسنة‪.1" ...‬‬ ‫فقد أدرك عبد احلميد بن باديس ورجال اإلصالح عموما أمهية الفهم الصحيح للقرآن الكرمي حماربني بذلك البدع‬ ‫واخلرافات اليت كانت تغلف اإلسالم اجلزائري وحتيد به عن معناه ‪ ،‬ويف الوقت ذاته توصيل املعاين السامية اليت جاء‬ ‫هبا اإلسالم إىل املفرنسني أو دعاة اإلدماج ‪،‬هذه املعاين اليت تصاحل بني العقل والعلم والوحي والتأكيد أن اإلسالم‬ ‫هو الدين الوحيد الذي صاحل بني هذه العناصر الثالث ‪ ،‬وأن الشريعة اإلسالمية عقالنية وال ميكن أن تناقض‬ ‫العقل ‪. 2‬‬ ‫تبىن ابن الباديس املنهج االستعجايل يف تفسري آي القرآن الكرمي واملقصود باملنهج االستعجايل انشغال ابن‬ ‫باديس بالتفسري الشفوي والتواصل املباشر مع الطبقات املختلفة واملتنوعة من اجملتمع عن التأليف والتدوين‪" .‬إذ‬ ‫كان يرى حني تص ّدى لتفسري القرآن‪ -‬أ ّن يف تدوين التفسري بالكتابة مشغلة عن العمل املق ّدم وإضاعة لعمر‬ ‫يتعجله املريض املنهك من‬ ‫فتتعجل من االهتداء به ما ّ‬ ‫الضالل‪ ،‬لذلك آثر البدء بتفسريه درسا تسمعه اجلماهري ّ‬ ‫يتعجله املسافر العجالن من الزاد"‪.3‬خاصة وأن اجلزائر يف القرن العشرين كما وصفها ابن باديس‬ ‫الدواء وما ّ‬ ‫أصبحت أرض اجلهل واألمية‪ ،4‬وأصبح اجلزائريون غرباء عن مبادئ عقيدهتم كما أن عددا من الطقوس اجلاهلية‬ ‫انقسمت نتيجة لذلك كما انقسم اجملتمع اجلزائري على نفسه انقساما خطريا وقد حلّت العلمانية والتعصب حمل‬ ‫وحدة اجملتمع يف اإلسالم‪.5‬واالستعجالية اليت متيز تفسري ابن باديس تظهر أيضا يف منهجه العملي الذي يتحاشى‬ ‫‪1‬عبد احلميد بن باديس مفكر اإلصالح وزعيم القومية اجلزائرية‪ :‬أندري ديرليك ‪.‬تر‪ :‬مازن بن صالح مطبقاين‪ .‬علم األفكار‬ ‫اجلزائر‪ ،2013 ،‬دت‪،‬ص‪.228‬‬ ‫‪ 2‬ينظر‪:‬عبد احلميد بن باديس مفكر اإلصالح وزعيم القومية اجلزائرية‪،‬ص‪.238‬‬ ‫‪ 3‬البشري اإلبراهيمي‪ :‬مقدمة جمالس التذكري من الكالم احلكيم اخلبري ‪،‬ص ‪12‬‬ ‫‪ 4‬يف مقالة "حالة املسلمني التعيسة" الشهاب ‪ 11‬سبتمرب ‪ 1927‬م‪.‬‬ ‫‪ 5‬عبد احلميد بن باديس مفكر اإلصالح وزعيم القومية اجلزائرية ‪ ،‬ص ‪.210-209‬‬ ‫‪3‬‬ ‫فيه كل ما يثقل النص وكل ماال حيمل معه املتلقي إىل الفهم الصحيح من جهة والتطبيق السليم من جهة ثانية ‪،‬‬ ‫فمنهجه تابع هلدفه ووسيلة لتحقيق رؤيته ‪ ،‬إذ يؤكد ابن باديس على اجلمع بني هداية القرآن واجملتمع ‪ ،‬بغية‬ ‫الوصول إىل حلول واقعية تليق مبتطلبات اإلنسان والعصر ‪.‬‬ ‫ومن مثقالت النص اليت يتجنبها ابن باديس ويتفاداها و يرى فيها أهنا تعيق الفهم ‪،‬وال ختدمه–خاصة وأ ّن‬ ‫املتلقني لتفسريه تتنوع درجة وعيهم من جهة ويتنوع انتماؤهم وتوجههم الفكري من جهة ثانية‪ .‬فنجده يلغي‬ ‫اإلسرائيليات واالختالفات النحوية واللغوية وكل ما يتعلق هبا من تشعبات وتشابكات ال خدمة ترجى منها يف‬ ‫فهم النص أو تأويله ‪ ،‬هذا االختالف يف احلاالت االجتماعية واخللفيات الفكرية واملنطلقات السياسية يفرض‬ ‫على املخاطب انتقاء معجم لغوي خاص وحتري األسلوب املناسب مراعيا مقتضى حال املخاطبني حىت حيقق‬ ‫ويبصر املثقفني أمثاله بأنوار القرآن‬ ‫خطابه املقصد الذي يصبو إليه‪ ،‬فيقرب رؤيته إىل الفالح اجلزائري البسيط‪ّ ،‬‬ ‫الكرمي الستنباط معانيه واستخراج درره وكنوزه‪ ،‬ويقنع معارضيه على اختالف توجهاهتم بنجاعة اإلسالم ليكون‬ ‫حال لكل األزمات احمليطة باإلنسان‪ .‬وال ميكن ألحد أن ينكر األثر االجيايب الذي حققه ابن باديس يف توعية‬ ‫اجملتمع اجلزائري والنهوض به من حالة اخلمول والركود اليت كان يعيشها حتت وطأة املستعمر‪ ،‬إىل حالة من الوعي‬ ‫واملشاركة الفاعلة يف بناء اجملتمع ‪ .‬وقد حتدث البشري اإلبراهيمي عن جمالس التذكري مشيدا بأنوار العلم اليت الزالت‬ ‫تنري درب من يطلبه ‪ ،‬كما أشاد جبودة األسلوب‪ ،‬فيجعله جامعا بني احلسنني ‪ ،‬إذ" استفاد منه املتأدبون مثاال‬ ‫عاليا من ذلك األسلوب الذي جيمع العلم واألدب فيستهوي العامل واألديب" ‪ .1‬وانطالقا من كل ما سبق يفرض‬ ‫السؤال اآليت نفسه "ما هو املعجم اللّغوي الذي استثمره ابن باديس يف بناء نصه وماهي السمات األسلوبية اليت‬ ‫وظفها‪ ،‬واليت كفلت له الوصول إىل متلقي خطابه وإقناعهم بالتطبيق العملي لفحواه؟‬ ‫فسر‬ ‫ألجل اإلجابة عن هذا الطرح سيتم مقاربة نص من نصوص جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري ي ّ‬ ‫فيه ابن باديس اآلية ‪ 108‬من سورة يوسف‪ :‬قال تعاىل‪{ :‬قُل َه ِذهِ سبِيلِي أَ ْد ُعو إِلَى اللَّ ِه َعلَى ب ِ‬ ‫ص َيرةٍ أَنَا َوَم ِن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اتَّ ب عنِي وسبحا َن اللَّ ِه وما أَنَا ِمن ال ِ‬ ‫ين } مقاربة داللية بتطبيق منهج احلقول الداللية‪.‬‬ ‫َ َ َ ُْ َ‬ ‫ََ‬ ‫ْم ْش ِرك َ‬ ‫َ ُ‬ ‫هيكلة النص‪:‬‬ ‫عنون ابن باديس تفسريه اآلية بـ‪" :‬سبيل السعادة والنجاة"‪ ،‬ومبا أن العنوان هو العتبة األوىل اليت يطؤها‬ ‫القارئ فهو حيمل بعض مفاتيح النص‪ ،‬اليت تساعد القارئ على توقع ما سيندرج حتته من معاين وموضوعات‪.‬‬ ‫‪ 1‬جمالس جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري ‪،‬بقلم اإلمام البشري اإلبراهيمي‪.‬مج‪،1‬ص‪.15‬‬ ‫‪4‬‬ ‫لنصه فيه شحنة إجيابية تغري القارئ مبحتوى النص وجتذبه ملواصلة‬ ‫والعنوان الذي اختاره ابن باديس ّ‬ ‫القراءة‪ ،‬و جتعله على استعداد تام لتطبيق حمتواه حىت يصل إىل حتقيق الوعد الذي يكفله له العنوان "السعادة‬ ‫والنجاة"‪.‬‬ ‫قسم ابن باديس النص إىل مثان عناوين جزئية تنوعت بني املفاهيم النظرية والتطبيقات العملية‪ ،‬استبقها‬ ‫بتوطئة حت ّدث فيها عن اآلية حديثا جممال حيمل به القارئ إىل اجلو العام لآلية ويوصله باملعاين اليت يريد أن‬ ‫يستنبطها انطالقا من حتليله هلا لينتقل بعد ذلك إىل التفصيل‪ ،‬فيقول‪ ":‬خلق اهلل حممدا صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫أكمل الناس ‪ ،‬وجعله قدوهتم وفرض عليهم اتباعه و االتساء به ‪ ،‬فال جناة هلم من املهالك واملعاطب ‪ ،‬وال‬ ‫وصول هلم إىل السعادة يف دنياهم وأخراهم ‪ ،‬ومغفرة خالقهم ورضوانه ‪ ،‬إال باقتفاء آثاره والسري يف سبيله‪1".‬وهذه‬ ‫الطريقة ه ي منهجية ابن باديس يف الكتابة وحىت اخلطابة‪ ،‬فهي من آليات التبسيط والتيسري اليت يقصد إليها ابن‬ ‫باديس ابتغاء الوصول إىل املتلقني عامة على اختالف مستوياهتم العلمية وعلى تنوع توجهاهتم الفكرية‪.‬‬ ‫كما أن السمة التعليمية بارزة يف النص‪ ،‬وهي كذلك غاية كربى يسعى ابن باديس إىل حتقيقها ضمن‬ ‫منظومة اإلصالح اليت يرتأسها‪ ،‬غايتها األوىل تعليم اجلزائريني دينهم تعليما صحيحا ينطلق من روح العصر وال‬ ‫ينفصل عن روح السلف‪ ،‬وكأنه يريد القول أن القرآن هو منهج حياة ‪ ،‬جيب علينا فهمه فهما صحيحا ليغري‬ ‫حياتنا ومصرينا إىل األفضل كما غري حياة من تلقوه بالفهم الصحيح والتطبيق السديد لتعاليمه ومبادئه فانتقل هبم‬ ‫من ظلمات اجلهل إىل أنوار اهلدي ‪ ،‬ولذلك" اختذ ابن باديس أهم وسيلة إلصالح العقيدة وهداية الناس ‪ ،‬تفسري‬ ‫القرآن الكرمي فجعله انشغاله األول ‪....‬غرضه من ذلك تبسيط املبادئ القرآنية للنشء "‬ ‫‪2‬‬ ‫جند ابن باديس ال يقف البتة عند اجلانب النظري من التفسري فيقتصر على ما قاله السلف أو يديل مبا‬ ‫فتح اهلل عليه من فهمه ملعاين ودالالت اآلية ‪ ،‬بل يربطها باجلانب العملي ويوجه املتلقني إىل طريقة تطبيق حمتوى‬ ‫اآلية كل حسب ختصصه وعمله ومكانته يف اجملتمع ‪،‬فيقول يف ماهية الدعوة‪...":‬فالفقيه الذي يبني حكم اهلل‬ ‫وحكمته داع إىل اهلل‪ ،‬والطبيب املشرح الذي يبني دقائق العضو ومنفعته داع إىل اهلل ‪ ،‬ومثلهما كل مبني يف كل‬ ‫‪ 1‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.121‬‬ ‫‪ 2‬الفكر العريب احلديث واملعاصر‪-‬حممد عبده وعبد احلميد بن باديس أمنوذجا‪ -‬عبد الكرمي بوصفصاف‪ .‬دار مداد‪،‬ط‪،1‬‬ ‫‪،2009‬ج‪ ،2‬ص‪.264‬‬ ‫‪5‬‬ ‫علم وعمل‪ 1".‬فصورة اجملتمع اجلزائري حاضرة بقوة يف جمالس التذكري‪ ،‬يظهر ذلك يف ربطه رؤية القرآن الكرمي‬ ‫للعامل برؤية جمتمعه حماوال جاهدا تصحيح تلك الرؤية وتوجيهها حنو الرؤية القرآنية ‪.‬‬ ‫فنجد صورا من اجملتمع اجلزائري حاضرة بقوة يف تفسريه اآلية ‪ ،‬ومن أهم هذه الصور ما تعلق بالعقيدة اليت ترى‬ ‫حالة من عدم االتزان واالبتعاد عن الصراط املستقيم ‪ ،‬وتصحيح العقيدة من أهم القضايا اليت يكافح ألجلها‬ ‫رجال اإلصالح يف اجلزائر بل هي أمهها ‪ ،‬أل ّن العقيدة الصحيحة تنتج مسلما صاحلا متأسيا بالرسول صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬فصحة عالقته مع ربه ستأيت بثمرها يف صحة عالقته بذاته ومبجتمعه وبعمله‪...‬ومن صور حالة‬ ‫الالتزان اليت يسلط عليها ابن باديس الضوء يف تفسريه ويبينها بالشاهد واملثل ما مساه مبظاهر الشرك جليه وخفيه‬ ‫فيفصل فيها الق ول حرصا منه على اجتناب املسلمني مثل هذه األقوال واألفعال واملعتقدات اخلاطئة واليت ميارسها‬ ‫أغلب اجلزائريني جهال منهم أهنا صورة من صور الشرك فيقول‪...":‬مظاهر شركهم حىت يف صورة القول‪،‬كـ (ماشاء‬ ‫اهلل وشاء فالن)‪ ،‬فال يقال هكذا ‪ ،‬ويقال‪" :‬ثّ شاء فالن" كما جاء يف احلديث‪ ، 2‬أو يف صورة الفعل ‪ ،‬كأن‬ ‫يسوق بقرة أو شاة مثال إىل ضريح من األضرحة ليذحبها عنده ‪ ،‬فإنه ضالل كما قاله الشخ الدردير يف باب‬ ‫النذر‪ ،‬فضال عن عقائدهم ‪ ،‬كاعتقاد أن هناك ديوانا من عباد اهلل يتصرف يف ملك اهلل ‪ ،‬وأ ّن املذنب اليدعو اهلل‬ ‫‪ ،‬وإمنا يسأل من يعتقد فيه اخلري من األموات ‪ ،‬وذلك امليت يدعو له اهلل‪ 3".‬فابن باديس حريص كل احلرص على‬ ‫اجلمع بني اآلية املدروسة وحالة اجملتمع اجلزائري فيبني كيفية تطبيقها والعمل هبا يف أوضاع متنوعة ولدى‬ ‫شخصيات خمتلفة كل حسب عمله ووظيفته ومكانته فيكون القرآن منهج حياة ويتحرر من دفيت الكتاب إىل‬ ‫الواقع فيتمثل يف تصرفات وأقوال وأعمال وأفكار املسلمني متأسني بسيد اخللق سيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫الذي كان خلقه القرآن ‪.‬‬ ‫المعجم اللّغوي في النص‪:‬‬ ‫لكل نص نظام مفهومي يضم جمموعة من احلقول الداللية اليت تربط بينها عالقات متنوعة‪ ،‬واحلقل الداليل‬ ‫هو جمموعة من املفاهيم تنبين على عالئق لسانية مشرتكة‪ ، 4‬وعرفت احلقول الداللية عند علماء اللغة‪" :‬أهنا‬ ‫‪ 1‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري‪،‬ج‪،1‬ص‪.125‬‬ ‫‪ 2‬صحيح‪ :‬أخرجه أبو داود ‪ 4970‬وغريه عن حذيفة مرفوعا ‪ ":‬ال تقولوا ما شاء اهلل وشاء فالن ولكن قولوا‪ :‬ما شاء اهلل ثّ شاء‬ ‫فالن‪".‬‬ ‫‪ 3‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري‪،‬ج‪،1‬ص‪.130‬‬ ‫‪ 4‬مباحث يف علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪:‬نور اهلدى لوشن‪.‬املكتبة اجلامعية األزارطية‪ ،‬األسكندرية‪،‬دط‪ ،‬دت‪،‬ص ‪.372‬‬ ‫‪6‬‬ ‫تصنيف لأللفاظ املستعملة يف نص من النصوص أو لغة من اللغات ترتبط فيما بينها برابط داليل معني‪ .1‬فاملعاين‬ ‫ال توجد منعزلة يف الذهن بل ال بد لفهمها من ربط كل معىن منها مبعىن آخر ‪ 2‬وعرفه أوملان ‪":‬بأنه قطاع متكامل‬ ‫من املادة اللغوية يعرب عنه جمال معني من اخلربة‪ 3".‬إذن فاحلقل الداليل ميثل جزءا من املعجم وجمموع احلقول‬ ‫الداللية يشكل املعجم اللغوي لنص ما واملعجم يف حد ذاته يتحول إىل حقل بالنظر إىل معجم اللغة ككل‪.‬‬ ‫أصول نظرية الحقول الداللية‪:‬‬ ‫عرف اللغة‪":‬‬ ‫ترجع أصول نظرية احلقول الداللية إىل نظرية رؤية العامل هلامبولدت‪ Humboldt‬الذي ّ‬ ‫بأهنا ظاهرة متحولة ‪ Dynamic‬وليست ثابتة ‪ ،Ergon‬وأصر على أن املظهر الثابت للغة ظاهري فحسب‪.‬‬ ‫وأوىل اهتماما خاصا بالفكر ويرى أ ّن "قضية العالقات بني اللغة والعقلية القومية حتتل مكانا أساسيا يف نظريته‬ ‫اللسانية فاللغة هي نتاج متميز لروح أمة بعينها والتعبري اخلارجي عن البنية الداخلية مييط اللّثام عن رؤية خاصة‬ ‫للعامل‪ ...‬ومن هنا مسيت نظريته رؤية العامل‪.4‬‬ ‫فتطبيق نظرية احلقول الداللية ال يعترب جمرد جتميع كلمات وتصنيفها ضمن حقول ‪ ،‬أو هي إسـاءة للـنص كمـا قـال‬ ‫فيها حممد مفتاح ‪ ":‬الدراسة املعجمية ‪ ،‬وحدها تسيئ إىل النص الشعري ألهنا تفصل األلفاظ عن سـياقها الرتكيـ‬ ‫أي عما قبلها وما بعدها ‪....‬فإذا كانت الطريقة املعجمية املوضوعاتية تفشل يف إعارة االنتباه إىل الرتابط والتداعي‬ ‫احلر ‪ ،‬فإهنا تعجز أيضا عن التمييـز بـني مسـتويات اللغـة املسـتعملة ‪ 5"...‬فاعتمـاد مـنهج احلقـول الدالليـة ال يعـين‬ ‫إقصاء السياق ‪ ،‬بل من أهم املبادئ اليت تقوم عليها النظرية أن ‪:‬‬ ‫‪ ‬ال ميكن إغفال السياق الذي ترد فيه الكلمة‪.‬‬ ‫‪ ‬ال ميكن دراسة املفردات مستقلة عن تركيبها النحوي‪.‬‬ ‫إىل جانــب ذلــك ف الكلمــة تســتقي معناهــا مــن الكلمــات اجملــاورة هلــا يف احلقــل وتتشــرب دالالت إضــافية إىل املعــىن‬ ‫األساســي هلــا انطالقــا مــن النظــام املفهــومي الــذي تنتمــي إليهــا ‪،‬فاحلقــل الــداليل هــو جمموعــة مــن الكلمــات ت ـرتبط‬ ‫‪ 1‬الكلمة دراسة لغوية ومعجمية‪ :‬حلمي خليل‪ .‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية ط‪ .1996 ،2‬ص ‪.192‬‬ ‫‪ 2‬الداللة واملعىن دراسة تطبيقية ‪ :‬عقيد خالد محودي العزاوي‪ -‬عماد بن خليفة الدايين البعقويب‪.‬دار العصماء‪،‬سوريا‪1435 ،‬هـ‪-‬‬ ‫‪2014‬م‪،‬ص‪.132‬‬ ‫‪ 3‬علم الداللة‪ :‬أمحد خمتار عمر‪.‬عامل الكتب‪ ،‬ط‪1428،‬هـ‪2006-‬م‪،‬ص‪.79‬‬ ‫‪ 4‬ينظر‪ :‬ملكا افتش ‪ :‬اجتاهات البحث اللساين‪ ،‬تر‪ :‬وفاء كامل فايد‪ ،‬عبد العزيز مطلوح‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬ط ‪،2000 ،1‬‬ ‫ص‪.67-65‬‬ ‫‪ 5‬دينامية النص (تنظري وإجناز) ‪ :‬حممد مفتاح‪ .‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء ‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪،4،2010‬ص‪.61‬‬ ‫‪7‬‬ ‫داللتهــا‪ ،‬وتوضــع حتــت لفــع عــام جيمعهــا‪ .‬ولكــي تفهــم معــىن كلمــة جيــب أن تفهــم جمموعــة الكلمــات املتصــلة هبــا‬ ‫دالليا‪ ،‬فمعىن الكلمة هو حمصلة عالقاهتا بالكلمات األخرى يف داخل احلقل املعجمي‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫وبذلك فاللفظة يف احلقل تكتسب معناها من فلك النظام املفهومي الذي تدور يف فلكه فتصبح مشحونة‬ ‫بدالالت اكتسبتها داخل هذا النظام" فاحلقول الداللية ال حتمل الثروة اللّفظية فحسب بل هي حتمل احلقبة‬ ‫ظل هذه النظرية يعد يف الوقت ذاته دراسة لنظام التصورات‬ ‫التارخيية اليت اقتطفت منها هذا النص ودراسة املعىن يف ّ‬ ‫والعادات والتقاليد والعالقات االجتماعية واحلضارة السائدة بوجهيها املادي والروحي‪.2‬فهي‪ -‬احلقول الداللية ‪-‬‬ ‫إذن قادرة على اإلفصاح عن دالالت مل يصرح هبا الكاتب والكشف عنها "فقد توضع املادة يف حقول داللية‬ ‫فتكون مرآة ينعكس على سطحها جانب من خربة اإلنسان يف حياته العملية والنفسية فتتجمع األلفاظ ذات‬ ‫العالقات الداللية املتصاقبة يف وسم شئ أو وصف موضوع أو التعبري عن حال يف حيز واحد"‪.‬‬ ‫‪3‬‬ ‫والنصوص املفسرة للقرآن الكرمي‪ ،‬تعمل على تقريب الرؤية القرآنية للعامل انطالقا من القرآن نفسه ومن روح‬ ‫العصر الذي نتج فيه النص‪ .‬وهذه الرسالة الباديسية اللسانية حتوي جمموعة من احلقول الداللية اليت تشكل النظام‬ ‫املفهومي للنص‪ ،‬الذي ينطلق من القرآن الكرمي وحيمل بني طياته الروح اجلزائرية‪ .‬ميكن إجال هذه احلقول فيما‬ ‫حيمله العنوان الذي اختاره ابن باديس ووسم به تفسريه هلذه اآلية من كلمات(سبيل‪ ،‬سعادة‪ ،‬جناة) وتصنيفها‬ ‫حتت حقل واحد حيمل اسم "السعادة"‪.‬‬ ‫حيمل العنوان دالالت أخرى مسكوت عنها لكنها حاضرة بالفعل واليت تتمثل يف الطريق املناقض لطريق‬ ‫السعادة وهو طريق اهلالك والشقاء‪ ،‬وكأن ابن باديس يريد أن يقول‪ :‬من اتبع هدي اآلية فسينال سبيل السعادة‬ ‫والنجاة ومن حاد عنه فسيقع يف اهلالك والشقاء‪.‬‬ ‫وألن لكل كلمة معنيني معىن أساسي ومعىن عالقي فيكون "املعىن األساسي لكلمة ما شيء متأصل يف‬ ‫األول باختاذ الكلمة‬ ‫الكلمة نفسها حتمله معها ّ‬ ‫أّن ذهبت فإن املعىن العالقي شيء إضايف يتم إحلاقه وإضافته إىل ّ‬ ‫موقعا خاصا يف حقل خاص‪ ،‬مرتبطة بعالقات متعددة األشكال بكل الكلمات املهمة األخرى يف ذلك النظام"‪،4‬‬ ‫‪1‬علم الداللة ‪ :‬أمحد خمتار عمر‪ .‬دار العروبة ‪،‬انقره‪ ،‬ط‪، 1982 ،1‬ص‪.79‬‬ ‫‪ 2‬مباحث يف علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪:.‬ص‪.395‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪ -‬المعاجم اللغوية المعاصرة – قضاياه النظرية والتطبيقية ‪: -‬حميد مطيع العواضي‪ .‬مؤسسسة العفيف الثقافية‪ ،‬ط‪1999،1‬م‪،‬ص‪.32‬‬ ‫‪4‬اهلل واإلنسان يف القرآن – علم دالل الرؤية القرآنية للعامل‪ :‬توشيهيكو إيزوتسو‪.‬تر‪:‬هالل حممد اجلهاد‪ .‬املنظمة العربية للرتجة‪،‬‬ ‫‪8‬‬ ‫لذلك فكلمتا السعادة والشقاء يف النظام املفهومي اإلسالمي تكتسبان معاين عالقية إضافية إىل املعىن األساسي‬ ‫فتشحن اللفظة بدالالت روحية مستمدة من النظرة القرآنية ألن رؤية ابن باديس منطلقة من رؤية القرآن الكرمي‬ ‫اليت تربط معىن السعادة بالقرب من اهلل واتباع سنة نبيه والعمل ألجل نيل اجلنة وتربط معىن الشقاء بارتكاب ما‬ ‫خيالف الشرع واالنصراف عن اهلدي النبوي ‪.‬إذن داللة السعادة والشقاء الواردتني يف النظام املفهومي اإلسالمي ‪-‬‬ ‫الذي ميثل النص جزءا منه‪ -‬مرتبطتان بالروحانيات إذا ما قارناه مبفهومها يف األنظمة املادية الدنيوية واليت كانت‬ ‫تروج هلا احلياة الفرنسية ودعاة اإلدماج من اجلزائريني املفرنسني‪ .‬وميكننا أن منثل حلقلي السعادة والشقاء على‬ ‫النحو اآليت‪:‬‬ ‫األخالق‬ ‫النجاة‬ ‫المؤمنين‬ ‫اإلتساء‬ ‫البراءة من الشرك‬ ‫السعادة‬ ‫البشرى‬ ‫أ‬ ‫المهتدين‬ ‫الوصول‬ ‫السعادة‬ ‫اآلخرة‬ ‫الرضوان‬ ‫ب‬ ‫الوثيقة ‪01‬‬ ‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،2007 ،1‬ص‪.45‬‬ ‫‪9‬‬ ‫أ‪ -‬املعىن األساسي‬ ‫ب‪ -‬املعىن العالقي يف النظام املفهومي اإلسالمي (رؤية ابن باديس انطالقا من الرؤية القرآنية)‬ ‫الكافرين‬ ‫الهالك‬ ‫ال نجاة‬ ‫الشقاء‬ ‫الشقاء‬ ‫ال وصول‬ ‫أ‬ ‫االلتواء‬ ‫الكاذب‬ ‫الوثيقة ‪02‬‬ ‫ب‬ ‫نالحع أن هناك عالقة بني املعنيني األساسي والعالقي إال أن املعىن العالقي يتميز عن املعىن األساسي باتصاله‬ ‫بروح الثقافة اليت ينبثق عنها ليبني رؤية الكاتب للعامل من جهة ورؤية اجملموعة الثقافية اليت تتلقى اخلطاب من جهة‬ ‫ثانية‪ ،‬ألن الكاتب يف تعاط دائم مع الواقع ويف الوقت ذاته ال ميكنه أن ينفصل عن ذاكرته وتارخيه يف إنتاج أي‬ ‫نص هو معرفة صاحبه بالعامل وهذه املعرفة هي ركيزة تأويل النص من قبل املتلقني‪ .1‬وإذا مل يرتكز على هذين‬ ‫العاملني فإن خطابه لن حيقق غايته األساسية اليت هي التواصل وإذا مل يتحقق التواصل اتسعت الفجوة بني‬ ‫ِ‬ ‫املخاطب واملخاطب فيحدث اإلعراض واالنفصال‪ ،‬وهذه النتيجة تعرب عن نقيض ما كان يسعى ابن باديس إىل‬ ‫كل اآلليات واألدوات جلذب املخاطبني للتأثري فيهم وإقناعهم بأفكاره التجديدية‪.‬‬ ‫حتقيقه وي ّ‬ ‫كرس ّ‬ ‫‪1‬حتليل اخلطاب الشعري –اسرتاتيجية التناص‪: -‬حممد فتاح‪ .‬املركز الثقايف العريب‪،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،3،1992‬ص‪.123‬‬ ‫‪10‬‬ ‫إىل جانب هذين احلقلني يربز حقل ثالث ال يقل أمهية عن احلقلني السابقني بل يعد السبب الرئيس‬ ‫لتحقق أحدمها وهو "حقل الدعوة " ألن الدعوة إن كانت إىل اهلل وعلى بصرية ‪،‬اتساء بسيدنا حممد صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم حتققت السعادة والنجاة وإن كانت خمالفة ملنهج الرسول صلى اهلل عليه وسلم سقطت هبمفي املهالك‬ ‫واملعاصي‪.‬‬ ‫فكلمة "الدعوة" كلمة مركز أو هي كلمة مفتاح يف النص كما هي كذلك يف اآلية‪ " :‬قُ ْل َه ِذهِ َسبِ ِيلي‬ ‫صيرةٍ أَنَا وم ِن اتَّ ب عنِي وسبحا َن اللَّ ِه وما أَنَا ِمن ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين "‪.1‬‬ ‫أَ ْد ُعو إِلَى اللَّه َعلَى بَ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫ْم ْش ِرك َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ويف الع رف االجتماعي العام حتمل لفظه "دعوة" داللة طلب احلضور إىل مكان ما يف زمن حمدد وهي‬ ‫تقابل لفظة ‪ invitation‬يف اللغة الفرنسية‪.‬‬ ‫لكن معناها الداليل الذي تستمده من النظام املفهومي اإلسالمي حيمل داللة ثقافية جتعل الكمة تأخذ‬ ‫منحى داليل مغاير مرتبط بالدعوة إىل اهلل‪ ،‬وتذكري املسلمني بأوامره ونواهيه وتعريف غري املسلمني باالسالم‬ ‫واالستدالل على معانيه مبا ورد يف القرآن الكرمي والسنة النبوية‪.‬‬ ‫ينطلق ابن باديس يف معاجلته هذه القضية – الدعوة‪ -‬من عمق اجملتمع اجلزائري الذي كثرت فيه األطياف‬ ‫خصتها اآلية القرآنية بوصفني‪":‬إلى اهلل‬ ‫اليت حتمل طابع الدعوة لكنها ال تعين بالضرورة الدعوة الصادقة اليت ّ‬ ‫"و"على بصيرة" لذلك يصنف ابن باديس – انطالقا من هذا الوصف‪-‬الدعاة إىل صنفني صنف صادق وصنف‬ ‫كاذب ويبين النص يف شكل تقابلي توضيحي ‪2‬والذي منثل له بالوثيقة ‪03‬‬ ‫‪ 1‬يوسف‪108‬‬ ‫‪ 2‬ينظر‪ :‬مجالس التذكير من كالم الحكيم الخبير‪،‬ج‪ ،1‬ص‪.127‬‬ ‫‪11‬‬ ‫السعادة‬ ‫الداعي‬ ‫الصادق‬ ‫‪ ‬ال يتحدث عن نفسه وال يجلب لها‬ ‫جاها‬ ‫‪ ‬يعتمد على الحجة والبرهان‬ ‫‪ ‬ال تقع في سلوكه على تناقض أو‬ ‫التواء أو اضطراب‬ ‫‪-1*----‬‬ ‫الكاذب‬ ‫‪ ‬ال ينسى نفسه ال في أقواله وال أفعاله‬ ‫‪ ‬يبقى دعاويه محددة‬ ‫‪ ‬ال يزال في حنايا و تعاريج‬ ‫متثل الوثيقة ‪ 03‬حرص ابن باديس الشديد على تقدمي مقياس لتمييز الداعي الصادق من الكاذب ‪،‬‬ ‫ويق ّدم هذا املقياس يف شكل صورة تقابلية هي مبثابة قالب منطي يضع فيه امللتقي الداعي الذي أمامه وينظر إىل‬ ‫النتيجة فإنوافق اجلزء األول من الصورة فهو صادق وجيب اتباعه ‪ ،‬وإن وافق اجلزء اآلخر منها فيصنفه يف فريق‬ ‫الداعي الكاذب وينصرف عنه‪ ،‬ومقياسه هذا مستمدد من اآلية الكرمية وجهني "إىل اهلل" و"على بصرية"‪.‬‬ ‫انطالقا مما سبق يظهر لنا أن املعجم املوظف يف النص هو املعجم الديين ‪ ،‬إال أنه مل يكن املعجم الوحيد‬ ‫إذ يظهر إىل جانبه املعجم االجتماعي ‪ ،‬وليس مبالغة إن قلت إنه يشاركه املساحة ذاهتا ‪ ،‬ألن انتاج أي نص ال‬ ‫ميكنه أن ينفصل عن اجملموعة الثقافية اليت ينبعث منها ‪.‬فكانت رؤية ابن باديس لآلية موجهة من اجملتمع قبل أن‬ ‫تكون موجهة إليه‪ ،‬إذ السلبيات والنقائص اليت يراها املصلح يف جمتمعه حتركه ليبحث هلا عن بدائل وحلول وابن‬ ‫يفصل احلديث عما يرى فيه‬ ‫باديس مصلح ينطلق يف فكره اإلصالحي التجديدي من القرآن الكرمي ‪ ،‬ولذلك فهو ّ‬ ‫حال ملشكالت جمتمعه ويسقطه على واقعه لينتقل من اجلانب النظري إىل اجلانب التطبيقي‪ ،‬فيقول يف تفسريه‬ ‫* ربط يف الوثيقة ‪ 3‬بني الداعي والكاذب خبط متقطع ألنه ادعاء وليس حقيقة ولفظة الداعي يف األصل ال تطلق إال على الداعي‬ ‫الصادق‪.‬‬ ‫‪12‬‬ ‫الشقاء‬ ‫لقوله تعاىل‪ ":‬أدعو إىل ا هلل على بصرية أنا ومن اتبعين" ‪....":‬فالفقيه الذي يبني حكمه وحكمته داع إىل اهلل‪،‬‬ ‫الطبيب املشرح الذي يبني دقائق العضو ومنفعته داع إىل اهلل ‪ ،‬ومثلهما كل مبني يف كل علم وعمل"‪.1‬‬ ‫يظهر املعجم االجتماعي متداخال مع املعجم الديين يف النص ‪ ،‬من خالل النماذج اليت هي من صميم‬ ‫صر ابن باديس على إظهارها يف كل مرة تعليما وتفهيما للجزائريني ‪ ،‬مع عناية أكرب‬ ‫اجملتمع اجلزائري واليت يُ ّ‬ ‫لتصحيح العقيدة اليت هي أساس قوهتم‪ ،‬واليت يرجوهنا ليتحرروا من قيود املستعمر ‪ ،‬وميكننا أن نستدل يف هذا‬ ‫املقام على فكر ابن باديس الذي كان يؤسس له تدرجييا وعلى مراحل مدروسة ومتدرجة ‪ ،‬فالعدو األول‬ ‫للجزائريني –يف الفكر الباديسي‪ -‬قبل االستعمار هو اجلهل والبد من حماربة اجلهل قبل حماربة املستعمر‪ .‬ومن‬ ‫التصرفات اليت كانت سائدة يف اجملتمع واليت تعرب عن حالة اجلهل اليت سعى ابن باديس ورجال الفكر واإلصالح‬ ‫إىل حماربتها هي جعل الوساطة بني العبد وربه وإنزال األضرحة املقام الذي ال تسمو إليه من التعظيم‪.‬‬ ‫يظهر لنا بوضوح رؤية ابن باديس للعامل املستمدة من رؤية القرآن الكرمي‪ ،‬فهو ينطلق من القرآن ليصحح‬ ‫مسار الشعب اجلزائري ويقوده إىل سبيل السعادة والنجاة وعنايته بالدعوة وبالتحديد بالداعي وكيف جيب أن‬ ‫يكون يفصح عن رؤيته اليت تؤكد أ ّن الفهم الصحيح لإلسالم هو احلل‪ ،‬وأ ّن العامة يف حاجة إىل داع صادق‬ ‫أمس احلاجة إىل إقصاء‬ ‫يعلّمها دينها للخروج باجلزائر من حالة الشقاء إىل حالة السعادة‪ ،‬وهي يف نفسه يف ّ‬ ‫الداعي الكاذب الذي ميثلعينة كبرية من اجملتمع اجلزائري وله أعداد كبرية من املريدين واألتباع الذين أفسدوا على‬ ‫اجملتمع عقيدته أغرقوه يف اجلهل واخلرافة‪.‬‬ ‫‪1‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري‪:‬مج‪،1‬ص‪.125‬‬ ‫‪13‬‬ ‫إ ذن فرؤية ابن باديس للعامل تظهر من حقوله اليت تؤسس نصوصه ‪ ،‬هذا العامل الذي ميثل بالنسبة له‬ ‫الشعب اجلزائري أوال ث العامل اإلسالمي ‪ ،‬وليس تقصريا أو عيبا أن ينطلق يف رؤيته من جمتمعه وبيئته بل ذاك هو‬ ‫املطلوب منه ‪.‬‬ ‫العالقات الداللية‪:‬‬ ‫هي مصطلح يطلقه الدرس احلديث على ظواهر متعددة تشرح العالقة بني الكلمات يف اللغة الواحدة ومن‬ ‫نو ٍاح متعددة‪ ...‬وقد تولّد هذا املصطلح حديثا من دراسة احلقول الداللية حيث حبث الدارسون بعد تصنيفها‪،‬‬ ‫العالقات بني كلماهتا‪ ،1‬وهذه العالقات ال خترج يف أي حقل من احلقول عن الرتادف واالشتمال أوالتضمن‪،‬عالقة‬ ‫اجلزء بالكل والتضاد والتنافر‪ .2‬والعالقة األكثر بروزا يف النص هي عالقة التضاد ‪.‬‬ ‫عالقة التضاد‪:‬‬ ‫يشارك هذا املصطلح مصطلحات أخرى تصب معه يف السياق ذاته ‪ ،‬وهي من مصطلحات علم البديع (الطباق‬ ‫والتقابل) ‪" ،‬أل ّن الباحث يف املقابلة جيد نفسه – من حيث ال يدري‪ -‬يتعرض للطباق ولكل نوع بديعي قائم‬ ‫على التضاد أو املناظرة"‬ ‫‪3‬‬ ‫والنص الذي بني أيدينا مبين بأكمله على فكرة التقابل بني (السعادة والشقاء) وبني (سبيل السعادة وسبيل‬ ‫الشقاء)‪ ،‬وبني (الداعي الصادق والداعي الكاذب) فظاهرة التقابل مرتكز بنائي يتكئ عليها النص يف عالقاته‬ ‫يساعد يف إجالء املعىن وتوكيده‪ .4‬وتظهر هذه الظاهرة يف أغلب نصوص وخطابات ابن باديس مبا يف ذلك‬ ‫بعض ظالل القرآن الكرمي فإن الكاتب ما فتِئ ينهل من أساليب الكتاب املعجز توضيحا ملعانيه وجتميال‬ ‫‪ 1‬حماضرات يف علم الداللة‪ :‬خليفة بوجادي بني احلكمة‪ ،‬ط‪ ،2012،2‬ص ‪.115‬‬ ‫‪2‬مباحث يف علم اللغة ومناهج البحث اللغوي ‪ ،‬ص‪.388‬‬ ‫‪ 3‬أسلوب املقابلة يف القرآن الكرمي – دراسة فنية بالغية مقارنة‪ -‬كمال عبد العزيز إبراهيم ‪ .‬الدار الثقافية للنشر‪ ،‬ط‪، 2010، 1‬‬ ‫ص‪.15‬‬ ‫‪4‬أسس مشروع النهضة عند اإلمام عبد احلميد بن باديس‪ :‬حممد بن مسينة‪ .‬دار الكتاب العريب‪،‬اجلزائر‪،‬ط‪،2014 ،1‬ص‪.152‬‬ ‫‪14‬‬ ‫ألسلوبه‪ .1‬فتأثر ابن باديس بأساليب القرآن الكرمي واضح يف تأكيد معانيه موظفا أحد أهم هذه األساليب وهو‬ ‫التقابل‪.‬‬ ‫وللتقابل قيمتان‪ :‬قيمة فنية تكمن فيما حيدثه التضاد من أثر متميز يف الداللة على صور ذهنية ونفسية‬ ‫مت عاكسة يوازن فيما بينها عقل القارئ ووجدانه فتتبني ما هو حسي منها ويفصله عن ضده‪ ،2‬أو القيمة الثانية‬ ‫فتتمثل يف مالءمتها ملا حيرص عليه ابن باديس يف أعماله من الغاية التبليغية التعليمية‪.‬‬ ‫حيرص ابن باديس على توظيف التقابل ألن فيه استحضار لصورتني متضادتني يف ذهن املتلقي لتصبحا‬ ‫شاهدتني كالعيان أمامه فيتحقق الفهم ويتعمق املعىن ويزيد رسوخا يف الذهن مما يستدعي التطبيق العملي ملضمونه‬ ‫وهو ما يسعى إليه ابن باديس يف مشروعه النهضوي اإلصالحي ‪،‬فغايته ال تقف عند نقل املعلومة بل يسعى إىل‬ ‫التمكني للحقائق ال جمرد نقلها‪ .‬فنجده مثال يقول‪....":‬فال جناة هلم من املهالك واملعاطب‪ ،‬وال وصول هلم إىل‬ ‫السعادة يف دنياهم وأخراهم‪"...‬‬ ‫‪3‬‬ ‫ويقول يف موضع آخر‪ ":‬كان يدعو الكافرين كما يدعو املؤمنني‪ ،‬يدعو أولئك إىل الدخول يف دين اهلل‪،‬‬ ‫ويدعو هؤالء إىل القيام بدين اهلل‪ ،‬فلم ينقطع يوما عن اإلنذار والتبشري‪ ،‬والوعع والتذكري‪".‬‬ ‫‪4‬‬ ‫فكأنه يقدم صورة حية ماثلة أمام املتلقني عناصرها‪ :‬املؤمنون والكافرون والداعي ‪ ،‬فيمثل فيها عناصر‬ ‫الدعوة وطريقة الدعوة وتنوعها بتنوع املدعوين ‪ .‬هذه الصورة التقابلية كافية لتبيان أمهية الدعوة من جهة وأمهية‬ ‫التنوع يف آداء الدعوة وضرورة تعلم الداعي هلذه املهارات التواصلية حبسب تنوع املتلقىي‪.‬‬ ‫‪ 1‬املرجع نفسه ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.153‬‬ ‫‪ 2‬البالغة والتطبيق‪ :‬أمحد مطلوب ص ‪.433‬‬ ‫‪3‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري ‪ ،‬مج‪ ،1‬ص‪.121‬‬ ‫‪4‬املصدر نفسه‪ ،‬مج‪ ،1‬ص‪.123‬‬ ‫‪15‬‬ ‫ومن مناذج التقابل أيضا اليت تصور مشهدا يقارب املعاينة هي تلك التفرقة اليت وضعها بني الداعي الصادق‬ ‫والداعي الكاذب واليت متثلها الوثيقة‪ ، 3‬ففي التقابل تقريب للمعىن عن طريق استحضاره أمام املتلقي مما يؤكد‬ ‫حتقيق الكفاية لدى املتعلم وحتقيق االقتناع لدى املتلقي‪ .‬عن طريق إظهار الصورتني املتضادتني ليتبني للسامع‬ ‫أيهما األحق باالتباع ‪ ،‬فيعمل عقله ويدرك األفضل بنفسه دون توجيهه عن طريق األوامر والنواهي املباشرة وهو ما‬ ‫تنفر منه النفوس وتأباه خاصة وقد متت اإلشارة مسبقا إىل التنوع الذي يطبع املتلقني خلطاب عبد احلميد ابن‬ ‫باديس‪.‬‬ ‫بعد هذا العرض املوجز لنماذج من ظاهرة التقابل أو التضاد يف النص ميكننا أن خنلص إىل أنّه أداة هامة يف‬ ‫توضيح املعىن وتقريبه ‪ ،‬ويف الوقت ذاته هو جتميل للصورة اللفظية وتزيينها ‪ ،‬فهو بذلك من أبرز مظاهر أسلوب‬ ‫التوكيد‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫مل يكن التقابل العالقة الوحيدة اليت تربط بني ألفاظ النص ومعانيه بل تزامحها ‪-‬تقريبا‪ -‬بالقوة ذاته عالقة‬ ‫الرتادف‪.‬‬ ‫عالقة الترادف‪:‬‬ ‫ليس املقام مقام إثبات وجود ظاهرة الرتادف يف اللغة العربية أم ال‪ ،‬لكن األهم واألكيد أن هناك كلمات‬ ‫يدل هبا على‬ ‫حتمل دالالت متقاربة وباإلمكان إحالل إحداها حمل األخرى‪ ،‬واستعمل ابن باديس ألفاظا كثرية ّ‬ ‫معان متقاربة مثل (السعادة‪ ،‬النجاة‪ ،‬الوصول) و (االقتداء‪ ،‬االتساء واإلتباع) و(اهلالك‪ ،‬الشقاء‪ ،‬ال جناة‪ ،‬ال‬ ‫وصول) وغالبا ما يوظفها متعاطفة على بعضها البعض مثل " ال جناة هلم من املهالك واملعاصي وال هلم إىل طريق‬ ‫السعادة دنياهم وأخراهم" ومثل "فرض عليهم اتباعه و االتساء به‪ ...‬باقتداء آثاره والسري يف سبيله"‪ .2‬يظهر لنا‬ ‫‪1‬ينظر‪ :‬أسس مشروع النهضة عند اإلمام عبد احلميد ابن باديس‪ ،‬ج‪،2‬ص‪.155‬‬ ‫‪2‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري ‪ ،‬مج‪،1‬ص‪.121‬‬ ‫‪16‬‬ ‫من هذه النماذج أن الرتادف حييلنا إىل شكل أسلويب آخر وهو التكرير ‪،‬ألنه يقع ال يقتصر على وقوع اللفع يف‬ ‫النص أكثر من مرة وفقط بل يتع ّداه إىل صياغة املعىن الواحد يف ألفاظ متنوعة‪ ،‬والتكرير ظاهرة لغوية مقامية تقصد‬ ‫إىل التأكيد والتقرير ‪ ،‬مما يساعد على اإلفهام واإلفصاح والكشف ‪ ،‬أي على توكيد الكالم والتشييد من أمره ‪،‬‬ ‫وتقرير معناه‪ .‬كما أ ّن له دوره يف السبك املعجمي كأن حييل إىل لفع مكرر أو لفع آخر سابق مرادف ‪ ،‬أو‬ ‫مرادف قريب "‪1‬فابن باديس يكرر معانيه ويضعها يف قوالب لفظية متنوعة ليحقق أهم غايات التكرار وهي‬ ‫الت أكيد‪ .‬خاصة وأن املتلقني خلطاب ابن باديس تطبعهم مسة التنوع فإن مل يؤثر أحد األلفاظ فسيؤثر فيهم اآلخر‬ ‫بالضرورة‪.‬‬ ‫كما أن التكرار من مسات املعلّم اليت يكتسبها من ممارسته هلذه املهنة فيجد نفسه يق ّدم املعىن ذاته يف‬ ‫أشكال متنوعة حرصا على تقريب دالالت القرآن الكرمي من عقل املتعلم فيتحقق الفهم عند املتلقني جيعهم‬ ‫ويتمكن املعىن من نفوسهم ويرسخ يف أذهاهنم ‪.‬‬ ‫آليات الحجاج في النص‪:‬‬ ‫تصب عالقتا التقابل والرتادف يف حتقيق احلجاج الذي يعد مطلبا ال تنازل عنه يف كل اخلطابات مهما‬ ‫تنوعت مساهتا‪ ،‬فاخلطاب رسالة يوجهها املرسل إىل املرسل إليه بغية إقناعه ‪ ،‬ومحله على التسليم بفحوى خطابه‪،‬‬ ‫" فالكاتب حني يباشر فعل الكتابة يضع يف ذهنه صورة اآلخر القارئ‪ ،‬الذي يكتب من أجله‪ .‬فيكون حضور‬ ‫القارئ ابتداء من حلظة الكتابة اليت تستدعي بطريقة ال إرادية القارئ الذي يصري جزءا هاما ومكمال ملفهوم‬ ‫القراءة"‪ 2‬وال تقف آليات احلجاج عند التوظيف املعجمي بل هي جمموع ما يطوعه املتكلم بغية خدمة وجهة نظره‬ ‫عن طريق محل املتلقي على التسليم بصحة موقفه واإلذعان ملراده أوال ‪ ،‬والتبين ملا يطرحه من وجهات نظر‬ ‫‪ 1‬اخلطاب اإلقناعي يف ضوء التواصل اللغوي‪ :‬عمارية حاكم‪ .‬دار العصماء‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪2015، 1‬م ‪ ،‬ص‪.311‬‬ ‫‪2‬‬ ‫الخطاب بين فعل التثبيت وآليات القراءة ‪ :‬عميش عبد القادر‪ .‬دار األمل‪ ،‬تيزي وزو‪،‬الجزائر‪ ،‬دط ‪ ،2012،‬ص‪.53‬‬ ‫‪17‬‬ ‫ثانيا‪1.‬ومن هذه اآلليات أدوات التوكيد اليت حيفل هبا هذا النص واليت تشكل حقال تركيبيا مهما يبني مدى حرص‬ ‫ابن باديس على إقناع املتلقي ومن هذا التوظيف ‪ :‬كثرة استعمال اجلمل االمسية مثل تكراره لعبارة‪ ":‬من الدعوة إىل‬ ‫اهلل‪2 ".....‬ليضيف إليها يف كل مرة طريقة من طرائق الدعوة كقوله مثال " ومن الدعوة إىل اهلل ظهور املسلمني –‬ ‫أفرادا وجاعات‪ -‬مبا يف دينهم من عفة وفضيلة‪"...‬‬ ‫‪3‬‬ ‫وكقوله ‪ ":‬األمة اليت بعث منها الن صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهي أول أمة دعاها إىل اهلل ‪ ،‬هي األمة العربية‪ ،‬وهي‬ ‫أمة كانت مشرتكة تعرف أن اهلل خلقها ورزقها ‪"...‬‬ ‫‪4‬‬ ‫ومن أدواته استخدام املؤكدات اليت تشكل بذاهتا حقال معجميا يضم األلفاظ اآلتية ‪ (:‬قد‪ ،‬لقد‪ ،‬كلهم‪ ،‬إ ّن‪ ،‬هذا)‬ ‫واملقصود بإدراج اسم اإلشارة هذا يف حقل املؤكدات اللغوية هو ذلك التوظيف الذي اختاره له ابن باديس يف‬ ‫سياقات متنوعة يف النص ‪ ،‬فاإلشارة توحي باحلضور واملشاهدة و املشاهدة تعين احلقيقة وإثباهتا عن طريق هذه‬ ‫املعاينة جيعل منها أداة من أدوات التوكيد اليت حتث القارئ على االقتناع مبحتوى النص ومن أمثلة ذلك يف النص ‪:‬‬ ‫" فلهذا أمر اهلل نبيه أن يبني سبيله بيانا‪ "، "...‬كانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة وجلية‪ "..‬و" وإذا كان‬ ‫هذا املقام ثابتا لكل مسلم ومسلمة ‪....،‬فأهل العلم به أوىل وهو عليهم أحق‪"...‬‬ ‫تكررت هذه األدوات بشكل ملحوظ والفت لالنتباه وظيفتها جيعا تصب يف الغاية اإلقناعية اليت كتب ألجلها‬ ‫هذا النص‪.‬‬ ‫إضافة إىل هذه املؤكدات يربز أسلوب القصر بتوظيف أدوات النفي واالستثناء كقوله‪... ":‬وا ّن اتباعهم له ال يتم‬ ‫إال به‪ "..‬وقوله‪" :‬ال يسميه إال مبا مسى به نفسه"‪ ،‬أو عن طريق توظيف "إمنا "كقوله‪ ":‬وإمنا يتنوع الواجب حبسب‬ ‫‪ 1‬في تداولية الخطاب األدبي‪ :‬نواري سعودي أبو زيد‪.‬ص‪.96‬‬ ‫‪2‬‬ ‫مجاس التذكير من كالم الحكيم الخبير‪ ،‬ج‪،1‬ص‪.126-124‬‬ ‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.126‬‬ ‫‪ 4‬المصدر نفسه ‪،‬ج‪،1‬ص‪.129‬‬ ‫‪18‬‬ ‫االستطاعة ‪ "....‬أو عن طريق تقدمي ما حقه التأخري كقوله‪ ":‬ومن الدعوة إىل اهلل بعث البعثات إىل األمم غري‬ ‫املسلمة‪".‬‬ ‫الحقول الصرفية‪:‬‬ ‫لتدل على‬ ‫يالحع قارئ النص ومن الوهلة األوىل بروز صيغة التفضيل "أفعل" وهي صفة تؤخذ من الفعل ّ‬ ‫أ ّن شيئني اشرتكا يف صفة وزاد أحدمها على اآلخر فيها‪ .1‬والسم التفصيل أربع حاالت‪ 2‬واحلالة الوحيدة الواردة‬ ‫يف النص هي إضافته إىل معرفة مثل قوله‪" :‬خلق اهلل حممدا صلى اهلل عليه وسلّم أكمل الناس"‪ ،3‬ومثل قوله‪":‬‬ ‫ولكن أكثر املعرتفني بوجوده قد نسبوا إليه ما ال جيوز عليه"‪.4‬‬ ‫أشر الضالل وأقبحه"‪ ،5‬تدل هذه الصيغة على أ ّن املفضل يفوق املفضل منه‬ ‫وكقوله‪" :‬وألن الشرك هو ّ‬ ‫بشيء كبري لدرجة إلغاء املقارنة بينهما فحني يقول حممد أكمل الناس فكأنه يقول حممد أكمل من كل ِ‬ ‫الناس فهو‬ ‫ّ‬ ‫حكم مطلق دال على الوصف الثابت للموصوف وال وجود لوجه مفاضلة بينه وبني غريه يف هذه الصفة ‪ ،‬هذه‬ ‫األحكام الصادرة من املتكلم توحي بالثقة الكبرية اليت ينطلق منها وأنه ِّ‬ ‫متأكد من معلوماته وله دليل قوي عليها‪،‬‬ ‫كيف ال ‪ ،‬وقد استمدها من القرآن الكرمي والسنة النبوية هذه الثقة الكبرية أكسبته جرأة يف تصنيف مراتب األمور‬ ‫ونسبة األفضلية إلحداها دون األخرى‪.‬‬ ‫كما تربز هذه الصيغة ثقة املتكلم بنفسه فهي تعد عامال نفسيا مهما يستخدمه للتأثري يف املتلقني يؤهله‬ ‫إىل قيادهتم إىل السبيل الذي يرى فيه السعادة والنجاة‪.‬‬ ‫‪1‬جامع الدروس العربية‪ :‬مصطفى الغالييين‪ .‬املكتبة العصرية‪ ،‬بريوت‪ 1425 ،‬هـ‪ 2004 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.143‬‬ ‫‪ 2‬جترده من "أل" واإلضافة‪ ،‬اقرتانه بـ"أل"‪ ،‬إضافته إىل نكرة‪ ،‬إضافته إىل معرفة‪.‬ينظر املرجع نفسه‪،‬ج‪ ،1‬ص‪.146-145‬‬ ‫‪3‬جمالس التذكري من كالم احلكيم اخلبري مج‪ ،1‬ص ‪121‬‬ ‫‪ 4‬املصدر نفسه‪ ،‬مج‪ ،1‬ص‪128‬‬ ‫‪5‬املصدر نفسه‪ ،‬مج‪ ،1‬ص ‪129‬‬ ‫‪19‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬ ‫بعد هذه املقاربة الداللية لعينة من نصوص ابن باديس ميكننا أن خنلص إىل أن هذا النص يش ّكل نظاما مفهوميا‬ ‫ينطلق من الرؤية القرآنية وال ينفصل عن الواقع اجلزائري ‪ ،‬يوظف فيه ابن باديس جمموعة من األنظمة الفرعية من‬ ‫صوت وصرف وتركيب ومعجم ليضمن له االستمرار واإلمثار‪ .‬هدف هذا النظام هو تصحيح مسار الشعب‬ ‫اجلزائري انطالقا من رؤية القرآن الكرمي للعامل‪.‬‬ ‫‪20‬‬